وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المشاركين في الندوة الوطنية التي ينظمها المجلس الأعلى للتعليم في موضوع "المدرسة والسلوك المدني" والتي انطلقت اليوم الأربعاء بالرباط.
وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها مستشار صاحب الجلالة السيد عبد العزيز مزيان بلفقيه:
"الحمدلله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
حضرات السيدات والسادة ،
يطيب لنا أن نخاطبكم اليوم في افتتاح أشغال هذه الندوة الهامة التي تلتئم فيها فعاليات الأسرة التعليمية الوطنية وخبراء من داخل المغرب وخارجه، منوهين باختياركم لموضوع " المدرسة والسلوك المدني" الذي نعتبره خير ما يفتتح به المجلس الأعلى للتعليم أنشطته العمومية.
وذلكم نابع من إيماننا بحتمية ترسيخ قيم المواطنة، وفضائل السلوك المدني في الممارسات اليومية، للأفراد والجماعات والمؤسسات، ولا سيما في خضم التحولات العميقة التي تشهدها المنظومات القيمية والثقافية في عصرنا الراهن، وكذا من العناية الخاصة التي نوليها للمؤسسة التربوية في تنمية ثروة المغرب الأولى المتمثلة في ناشئته وأجياله المواطنة.
حضرات السيدات والسادة،
إن الغاية المثلى من تنمية السلوك المدني هي تكوين المواطن المتشبث بالثوابت الدينية والوطنية لبلاده، في احترام تام لرموزها وقيمها الحضارية المنفتحة ،المتمسك بهويته بشتى روافدها، المعتز بانتمائه لأمته، المدرك لواجباته وحقوقه.
كما تستهدف تربيته على التحلي بفضيلة الاجتهاد المثمر، وتعريفه بالتزاماته الوطنية وبمسؤولياته تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، وعلى التشبع بقيم التسامح والتضامن والتعايش ليساهم في الحياة الديمقراطية لوطنه، بثقة وتفاؤل ، في اعتماد على الذات وتشبع بروح المبادرة.
وتندرج هذه الاهداف النبلية في إطار خيارنا الثابت لترسيخ مغرب المواطنة المسؤولة والديمقراطية والتضامن ، وتكريس دولة الحق والقانون، في انفتاح على القيم الكونية.
وهو نفس الخيار الذي اعتمدنا في إطلاق مختلف الأوراش الكبرى ببلادنا، سواء في مجال النهوض بحقوق الانسان ودمقرطة المجتمع ، أو في هيكلة الحقل الديني وإصلاح المنظومة التربوية وتحديث قطاع الاتصال، فضلا عن تخليق الحياة العامة، والنهوض بقضايا الأسرة والطفولة.
وكل ذلك مع الحرص على اجراء قطيعة لمختلف الممارسات اللامدنية، ولكل مظاهرالتعصب والتطرف والانغلاق مهما كانت مرجعياتها المذهبية ودوافعها الاجتماعية، سواء أكان ذلك في بلادنا أو خارجها.
حضرات السيدات والسادة،
إذا كان النهوض بالسلوك المدني، يعد مهمة تربوية مطروحة بالحاح على المجتمعات المعاصرة، فإن الاضطلاع بها يسائل بالدرجة الأولى، المنظومات التربوية، ويجعل مسؤوليتها مركزية ودورها راهنيا وحاسما في هذا المضمار.
ذلكم أن المدرسة مدعوة ، قبل غيرها ، لأن تكون منفتحة باستمرار على محيطها باعتماد نهج تربوي قوامه جعل المجتمع في صلب اهتماماتها، بما يعود بالنفع على أمتنا عامة وشبابنا بصفة خاصة. وهو ما يتطلب دعم تفاعلها مع المجالات المجتمعية والثقافية والاقتصادية.
ومن ثم فإن مقاربة تنمية السلوك المدني وحسن المواطنة، في علاقتهما الصميمية بالمؤسسة التربوية يستدعي من منظورنا استحضار خمسة مقومات رئيسية:
أولها، الاقتناع الجماعي بكون المدرسة هي مرآة متجددة، لمعالم مجتمع الغد، وبأن تحصين المجتمع يبدأ من تحصين هذه المؤسسة. اقتناع يجعل الاهتمام بالسلوك المدني مسؤولية طبيعية، لا انشغالا ظرفيا، ويجعله موضوعا حيويا لايفقد أبدا راهنيته.
ومن هذا المنظور، فإن الركن الأساس للسلوك المدني يتجلى في احترام القيم والقواعد والقوانين المنظمة للحياة الجماعية.
كما أن من مسؤولية الدولة والمجتمع، ومن واجب الفاعلين التربويين على الخصوص، السهر على أن تكون المؤسسات المدرسية والجامعية، فضاءات للتعلم والمواطنة، ومجالات منزهة عن كل المزايدات العقيمة، البعيدة كل البعد عن رسالتها التربوية النبيلة.
ويأتي في المقام الثاني، اعتبار السلوك المدني بالأساس، منظومة قيمية – أخلاقية متكاملة، لاتقبل التجزيء، وتتخذ مسارين متوازيين ومتوازنين.
-مسار التشبع بقيم المواطنة الكاملة وإشاعتها، من حيث أنها تقوم على التمتع بالحقوق الأساسية، والالتزام الفعلي بالواجبات الفردية والجماعية.
-ومسار التصدي الحازم للسلوكات اللامدنية، بمختلف أشكالها، عبر محاربة مظاهر العنف والغش والرشوة وسوء المعاملة، وغيرها من الممارسات اللاأخلاقية، التي يكون وقعها أكثر خطورة حين تتسرب إلى المؤسسات التعليمية.
أما المقوم الثالث، فمفاده أن رهان المدرسة في مجال التربية على السلوك المدني، يكمن في مدى قدرتها على تجسيده ثقافة وممارسة، وتحويل الوعي والاقتناع به إلى التزام وفعل وذلك بوصفها مؤسسة للتنشئة الاجتماعية وراعية للقيم.
ولتمكين المدرسة من النهوض، على الوجه الأمثل، بهذه المهمة، فإنه ينبغي العمل على جعل البرامج والوسائط التعليمية تستوعب بطريقة مبسطة، مبتكرة ومعاصرة، المفاهيم والقيم والقواعد المرتبطة بالسلوك المدني ، وأن تكون مكتسبة بشكل سلس لدى المتعلمات والمتعلمين. وهو ما يستدعي من الجميع، الكثير من الجهد والإبداع في هذا المجال.
كما أن التربية على السلوك المدني لابد وأن تجد امتدادها الطبيعي والعملي في العلاقات والفضاءات التربوية، سواء داخل الفصول الدراسية أو في المحيط المباشرللمؤسسات التعليمية، حيث يتعين أن تشكل الحياة المدرسية والجامعية مثالا حيا للسلوك المواطن المسؤول، ونموذجا لاحترام النظام والقانون، وتجسيدا للممارسة الديمقراطية وفضاء لتنمية الأنشطة الثقافية والرياضية والإبداعية.
ويتعين على الفاعلين التربويين، بمختلف فئاتهم النهوض الأمثل بالدور المنوط بهم، في تكامل فعال بين الوظيفة المعرفية والمهمة التربوية للمدرسة، ولا سيما بإعطاء القدوة والتحلي بالالتزام واليقظة، وكذا بالانخراط في برامج تكوينية مواكبة للمستجدات.
ويتعلق المقوم الرابع بالإقرار بكون النهوض بالسلوك المدني يعد مسؤولية مجتمعية متقاسمة تتولاها المنظومة التعليمية، إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام، وكذا المؤسسات ذات الوظائف التربوية والثقافية والتأطيرية.
ذلكم أن إبراز الدور المركزي للمدرسة ،في هذا الشأن، اعتبارا لمكانتها في حياة كل فرد وبالنظر للفترة الزمنية التي يقضيها فيها، لا يعني تخلي باقي فعاليات وهيئات المجتمع عن القيام بمهامها، بقدر ما هو تأكيد على تكامل الأدوار مع اختلاف الوظائف.
أما المقوم الخامس والأخير فيتعلق بالنظر إلى التربية على السلوك المدني بوصفها انشغالا دائما وأفقا منفتحا ومتجددا يرتكز على آليات للرصد والتتبع، وعلى تثمين المبادرات المتميزة، وتعميم الممارسات الناجحة، وتشجيع الابتكار والبحث التربوي في هذا المجال.
ولذلك، فإن فعالية منظومتنا التربوية ينبغي أن تقاس ، علاوة على نجاعتها في الارتقاء المتواصل بجودة التعليم وتطوير الكفاءات ، بمدى قدرتها على تنمية السلوك المدني، وتوطيد ممارسته اليومية، وتهذيب الذوق، وترسيخ الأساليب الراقية للحياة الجماعية لدى الناشئة.
حضرات السيدات والسادة،
تلكم أهم المقومات التي نعتبرها أساسية في ورش تنمية السلوك المدني. وهي مقومات لا شك أنها ستحظى ، خلال أشغال ندوتكم هاته ، بالمزيد من الدراسة والتحليل العميق.
وإذا كانت الدينامية التي واكبت كلا من الإصلاحات المجتمعية التي تشهدها بلادنا، ومسيرة إصلاح منظومتنا التربوية، قد حققت مكتسبات هامة في مجال التربية على المواطنة وحقوق الإنسان، فإنه يتعين علينا توطيد هذه المكاسب، والعمل على تعزيزها.
ولنا اليقين، في أن منهجية تبادل الآراء على اختلافها، والاجتهاد الجماعي المنتج، والانفتاح على الخبرات الوطنية والتجارب الرائدة، التي تطبع أعمال المجلس الأعلى للتعليم، ستفضي ، بتنسيق مع القطاعات الحكومية المعنية ، إلى بلورة إطار عمل وطني متكامل، للارتقاء بالسلوك المدني في مؤسساتنا التعليمية، في أفق تفعيله انطلاقا من الموسم الدراسي القادم. إطار عمل ننتظر أن يجسد اهتمامنا الفائق بتكوين المواطن الواعي، القادر على الموازنة الذكية والفاعلة بين حقوقه وواجباته، الملتزم بمسؤوليته، والمنفتح على الغير وعلى العصر.
وفقكم الله، وسدد خطاكم، وكلل بالنجاح أعمالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".